لقد فاتني حضور فعالية ثقافية نظمتها جمعية لعگل للثقافة وإحياء التراث، احتفاءً بذكرى الاستقلال، تحت عنوان: تاريخ الآباء وإرث الشهداء”. عنوان يختزل الكثير من المعاني والمشاعر الوطنية، لكنه أثار في نفسي رغبةً أعمق للحديث عن تاريخ قبيلة الحسنيين، هذه القبيلة التي ظلت منذ فجر نشأتها رمزًا شامخًا للثقافة، وعلمًا بارزًا في صنع الحضارة الإسلامية، وساهمت بعمق في نشر العلوم والمعارف في هذه البلاد.
منذ قرون طويلة، أنجب الحسنيون رجالًا جعلوا من أنفسهم جسورًا تربط بين موريتانيا ومنازل الثقافة الإسلامية الأخرى. فقد كان أجدادهم الأوائل آباءً للثقافة الموريتانية، ومنهم تنبثق سلاسل الإجازات في العديد من متون العلم المعتمدة في المحظرة، تلك المدارس العلمية التي زخرت بها البلاد. ولعل أبرز هؤلاء كان شيخ الشيوخ الحسني الفاضلي (ت1066هـ)، الذي تلقى العلوم في مصر على يد علي الأجهوري، ومنها سلسلة إجازات كتب الحديث الستة ومختصر خليل بن إسحاق في الفقه المالكي، وهي سلاسل علمية ما زالت ترددها الألسن وتنهل منها العقول.
أما في علوم العقيدة، فقد كان الحاج عبد الله بن أبي المختار محمد بن أحمد بن عيسى الحسني المختاري (ت ق11هـ) أول من أدخل كتاب إضاءة الدجنة في اعتقاد أهل السنة لأحمد المقري إلى هذه البلاد، بعد أن أخذه عن أبي مهدي، مفتي الحرمين الشريفين في ذلك الزمان. وللحاج عبد الله دور عظيم في إثراء المكتبة الموريتانية، إذ تروي المصادر التاريخية أنه أدخل إلى البلاد أكثر من أربعمائة كتاب، جالبًا معه كنوزًا من المعرفة والعلوم.
وكان الشيخ يحيى بن أبي سيد أحمد، المعروف بـ”المتعلق بالله” (ت في النصف الثاني من ق11هـ)، من المساهمين في نشر علوم النحو البصري، إذ نقلها عن الأشموني إلى هذه البلاد، ومنها انتشرت على يد طلابه وعلمائه. ومن أشهر من أخذ عنه، علماء قدموا معه من صعيد مصر، وعرفوا بلقب “مُودْيَاتْ”، أمثال مود مالك ومودن الله، وديج امبابا، وقد أشاعوا علم النحو بين الأجيال اللاحقة.
ونذكر كذلك الحاج أحمد بن الفاضل بن أبي أجود عبد الله بن أحمد بن يوسف الحسني (ت1250هـ)، الذي أدى مناسك الحج وعرج على بلاد المشرق، فأقام في مصر مربياً ومعلماً، وتزوج هناك وأنجب ابنه سيد محمد (ت1280هـ)، ليعود إلى البلاد محملاً بأكثر من ثلاثمائة كتاب نادر. وكان من أبرز من أثرى المكتبة العلمية في موريتانيا، كما أشاد بذلك محمد محمود بن أحمذي (ت1404هـ)، الذي قال فيه مادحًا:
من جَدُّهم حاول العلياء مرتقيا~~حتى إذا حج بيت الله جل علا
أهدى لنا العلم محمولا خزائنه~~والعلم أفضل محمول لنا حملا
وهكذا، بقيت قبيلة الحسنيين عبر الأجيال تتصدر قائمة العطاء العلمي والثقافي، فكانت منبعًا فياضًا يرتوي منه طلاب العلم، وينهل من معينها العلماء والشعراء، حتى غدت رمزًا للثراء المعرفي وحاضنةً للقيم الثقافية الأصيلة التي زينت بلاد موريتانيا وجعلتها مضرب مثل في طلب العلم وتقدير العلماء.
ومن أروع ما قيل في الحسنيين قول الأديب الأريب لمرابط دياه
ما كان جمعكم قدما بني حسن~~إلا على حسن يفضي إلى حسن
ولم تسيروا على نهج و لا سنن~~إلا على سنن في المكرمات سني
فأنتم بين ندب سيد ندس~~وعالم عامل أو شاعر لسن
علم وحلم وإطعام بمسغبة~~أيامكم مثل يوم النحر للبدن
تعطون في المجد أثمانا مضاعفة~~كذلك المجد يلفى غالي الثمن
حملتم العلم من هذي الربوع إلى~~أرض العراق وأرض الشام واليمن
وقل لمن لا يراني من بني حسن~~بأنني أنا من قيس وقيس مني
أولاء أهلي وجيراني ومستندي~~في النائبات وفخر الشعب والوطن
وإن أكن منشدا شعرا فيحضرني~~في ذا المقام مقال الشاعر اليمني
إن يغنيا عني المستوطنا عدن~~فإنني لست يوما عنهما بغن