نص خطاب معالي وزير الثقافة والفنون والاتصال والعلاقات مع البرلمان في الدورة العاشرة لمؤتمر أطراف اتفاقية 2005 لحماية وتعزيز أشكال التعبير والتي تحتضن فعالياتها منظمة اليونسكو ما بين 18 و20 يونيو في باريس
السيد الرئيس،
معالي المديرة العامة لليونسكو،
أصحاب المعالي والسعادة،
السيدات والسادة أعضاء الوفود،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
يسعدني أن أشارك في أعمال الدورة العاشرة لمؤتمر أطراف اتفاقية 2005 لحماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي، وأتوجّه إليكم، باسم فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، بأصدق التحايا وأطيب التمنيات بنجاح هذه الدورة التي نُعوّل عليها كثيرًا لتعميق الوعي الجماعي بأهمية صيانة التنوع الثقافي، وصياغة سياسات دولية عادلة ومنصفة في هذا المجال الحيوي.
إن اجتماعنا اليوم يأتي في لحظة بالغة الأهمية، حيث تواجه الأنظمة الثقافية في أنحاء العالم تحديات متسارعة تتراوح بين ضغط العولمة الرقمية، وهيمنة الأسواق، والتغيرات المناخية، وتراجع التنوع اللغوي، في مقابل حاجة متزايدة إلى فضاء دولي يكرّس العدالة الثقافية ويضمن تمكين جميع الشعوب من التعبير عن أنفسها، وحفظ إرثها، وتعزيز حضورها في المشهد العالمي.
من هذا المنطلق، نؤمن في موريتانيا بأن الثقافة أصبحت ضرورة استراتيجية لبناء مجتمعات متماسكة، ولتعزيز التفاهم بين الشعوب، وصياغة أفق تنموي متجذّر في الخصوصيات الثقافية.
كما تعلمون، تُعد اتفاقية 2005 علامة فارقة في مسار السياسات الثقافية الدولية، بمبادئها الاصيلة والياتها المبتكرة حينما تقرر بأن للثقافات قيمة قائمة بذاتها، وأن لكل دولة الحق في صياغة سياساتها الثقافية بما يخدم مصالحها وهويتها. كما اعترفت الاتفاقية بالطبيعة المزدوجة للسلع والخدمات الثقافية، بوصفها حاملة لرسائل رمزية ومعانٍ إنسانية، إلى جانب أبعادها الاقتصادية.
ومن هذا المنطلق، لم تكتفِ موريتانيا بالمصادقة على الاتفاقية، بل حرصت على جعلها مرجعية في تطوير سياساتها الوطنية الثقافية، ضمن رؤية متكاملة تضع الثقافة في صلب المشروع المجتمعي. وقد تجسّد هذا الالتزام في مجموعة من الإنجازات الملموسة. التي حققتها موريتانيا تجسيدا للاتفاقية وتوجت خلال السنتين الماضيتين بتحولات نوعية متسارعة احتفاء بالتنوع وترقية له وتكريسا لمتطلباته
ففي عام 2023، تم تسجيل “المحظرة”، هذا النظام التعليمي التقليدي الذي ظل لقرون ينقل المعارف والعلوم عبر الأجيال، ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لليونسكو. كما أُدرجت ملحمة “سامبا غلاديو”، تلك السردية البطولية التي تجسّد معاني الكرم، والشجاعة، والتعايش، ضمن نفس القائمة في نهاية العام ذاته، في شهادة عالمية على غنى موريتانيا وتنوعها الثقافي.
وادرجت اللغة السوننكية لغة عابرة للدول
كما صادق مجلس الوزراء مارس ٢٠٢٥على اقرار. يوم وطني للتنوع الثقافي يحتفي به فاتح مارس من كل سنة فضلا عن الاحتفاء باليوم العالمي للتنوع عبر العديد من الفعاليات
واطلق البحث الاكريىلوحي في مواقعنا الاثرية بدءً بازوكي عاصمة المرابطون وسيشمل عاصمة مملكة غانا في كومبي صالح واوداغست في اشارة دالة على ان تنوعنا ليس حاضرنا فقط ولا مستقبلنا. الواعد بل هو كذلك. ماضينا. المجيد الذي يتجلى في هذه. الاثار العظيمة
لقد اعتبرنا هذه الإنجازات تكريسا لمسار متجدد في صون التراث، لا يقتصر على الاعتراف به، بل يشمل وضع خطط استدامة، وتوثيق، وإتاحة، وتدريب المجتمعات على نقل هذا التراث. فالثقافة بالنسبة لنا، ليست ماضٍ محفوظ فحسب، بل طاقة حية تصنع الحاضر وتستشرف المستقبل.
وفي هذا الإطار، عملت موريتانيا على ترسيخ التعدد داخل وحدتها، من خلال اعتماد اللغات الوطنية — البولارية، السوننكية، الولفية — في المنظومة التعليمية لأول مرة، بافتتاح. عشرات الفصول الخاصة بتدريسها إلى جانب إطلاق إذاعات محلية تبث بهذه اللغات، وتدشين منصة إخبارية متعددة اللغات تابعة للوكالة الموريتانية للأنباء. هذه المبادرات تمثل ترجمة حقيقية لمبدأ “الوصول العادل إلى التعبير”، كما ورد في روح الاتفاقية.
كما أطلقت الوزارة مشاريع لإنشاء متاحف جهوية متخصصة تعكس التنوع المجالي والرمزي لمكونات شعبنا، وتم دعم المبادرات الثقافية المحلية والمهرجانات المجتمعية، انطلاقًا من قناعة بأن الثقافة تتنفس من رحم القرب الاجتماعي.
وترتكز هذه الديناميكية على رؤية فخامة رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، التي وضعت الثقافة في صميم مشروع البناء الوطني. فقد دعا في خطابه بمدينة وادان إلى تنقية التراث من الشوائب والصور النمطية، وأطلق من مدينة جول نداءً للوحدة والمساواة عبر مهرجان ثقافي يعزز اللحمة الوطنية. وتوجت هذه الرؤية بتسمية نواكشوط عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي لعام 2023، واحتضانها لأكثر من مائة فعالية ثقافية، بالتعاون مع شركائنا الدوليين.
وفي إطار تجسيد هذه الرؤية، التي تسهر حكومة معالي الوزير الاول المختار ولد اجاي على تجسيدها شرعت بلادنا في تنفيذ مجموعة من المشاريع البنيوية الكبرى التي تؤسس لبنية تحتية ثقافية مستدامة. يأتي في مقدمة هذه المشاريع الحي الثقافي ومشروع قصر الثقافة في نواكشوط، الذي يُخطط له أن يكون صرحًا جامعًا للفنون والآداب، ومركزًا للتكوين والإنتاج والعرض الثقافي، ومتنفسًا حضاريًا يعكس وجه موريتانيا الثقافي الحديث. كما يجري تنفيذ برنامج طموح لدعم الصناعات الثقافية والإبداعية، يهدف إلى تمكين الفاعلين الثقافيين من أدوات العمل والتسويق، وتحفيز الابتكار، وربط الثقافة بالدورة الاقتصادية، ضمن رؤية تنموية تعتمد على الإبداع المحلي كمورد من موارد المستقبل.
وفي مجال حفظ التراث المعرفي، يجري العمل على إنشاء دار وطنية للمخطوطات، تُعنى بصيانة وتثمين هذا الإرث النادر، وتحتضن برنامجًا متكاملًا لجرد المخطوطات، وترميمها، ورقمنتها، وتيسير الوصول إليها من قبل الباحثين والمهتمين، بما يضمن استمراريتها وحفظها للأجيال القادمة. وفي الإطار نفسه، انطلق مشروع القرية التراثية، الذي يُخطط له أن يكون فضاءً حيًّا يعيد تمثيل أنماط الحياة التقليدية في مختلف مناطق البلاد، ويتيح للمواطنين والزوار معايشة الثقافة الموريتانية بمكوناتها المتنوعة من عمارة، وصناعات، ومأكولات، وعادات، وتقاليد، ضمن رؤية تفاعلية تحفظ الذاكرة وتبني الانتماء.
إننا نعتبر هذه المشاريع وغيرها تجسيدًا ملموسًا لرؤية الدولة في الانتقال من الخطاب الثقافي إلى المنجز الثقافي، ومن التنظير إلى التمكين، إيمانًا بأن الثقافة حين تُدرج في صميم السياسات العامة تصبح أداة فعالة للإدماج والعدالة الاجتماعية.
ولا يفوتنا أن نؤكد في هذا المقام على أهمية المجتمع المدني الثقافي، فقد عملنا على إشراك الجمعيات، والنقابات، والمبادرات الشبابية في بلورة السياسات، ومتابعة تنفيذ البرامج، وتعزيز التعبير المحلي. وافتتاح الفضاءات السمعية البصرية متعددة اللغات ونعمل حاليًا على إعداد مرسوم جديد ينظم الإذاعات والتلفزيونات الجمعوية، في إطار دعم الإعلام الثقافي الحر، وتوسيع فضاءات التعبير، وضمان التعدد في المصادر والمنصات.
أصحاب المعالي والسعادة،
إننا ندرك أن الحفاظ على التنوع الثقافي يتطلب، إضافة إلى الإرادة، مواجهة التحديات المتعددة المرتبطة بتغير المناخ، والهجرة، والتحولات الرقمية، والتغيرات الاجتماعية المتسارعة. ولهذا نرى أن التعاون الإقليمي والدولي يجب أن يتجه نحو دعم القدرات، وتبادل الخبرات، وتمويل المشاريع الثقافية الصغيرة والمتوسطة، التي تمثل الخيط الرفيع الذي يحفظ حياة المجتمعات وتوازنها الداخلي.
وفي هذا السياق، نُجدّد التأكيد على أن منظمة اليونسكو كانت، ولا تزال، شريكًا محوريًا لموريتانيا في هذا المسار. فقد واكبت العديد من مبادراتنا، ودعمت جهودنا في تسجيل عناصر من تراثنا، ورافقتنا في بلورة سياسات متقدمة في مجالات التنوع واللغة والمجتمع.
إننا نؤمن بأن اتفاقية 2005 لا ينبغي أن تظل وثيقة مرجعية فقط، بل يجب أن تترجم إلى ممارسات دولية عادلة، تراعي خصوصيات الدول، وتمنح كل ثقافة فضاءً عادلًا للظهور، والتفاعل، والتطور، بعيدًا عن التهميش أو التماثل القسري.
أشكركم على حسن الإصغاء، وأجدّد باسم الجمهورية الإسلامية الموريتانية التزامنا الثابت بمضامين اتفاقية 2005، واستعدادنا لتعزيز شراكاتنا مع كافة الأطراف، من أجل عالم يُحتفى فيه بالتنوع، وتُصان فيه كرامة كل تعبير ثقافي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.