مهرجان المذرذرة الدولي: حين تصافحُ “إيكيدي” كبرياءَ التاريخ.
(ليسَ مَن رَأى كَمَن سَمِع)
جئتُ إلى مهرجان المذرذرة الدولي، فاستقبلتني الأرضُ قبل الأهل بفيضٍ من البشر والترحاب.
هناك، حيث يسكن الكرمُ بيوته، تلقيتُ من حُسن الاستقبال وحاتمية الضيافة ما يفيض عن الوصف، ولا غروَ؛ فأهل المذرذرة هم سدنة المروءة ومنبع الأصول.
في هذه الربوع، حيث يرتدي الرملُ حُلل الوقار، وتهمس الرياح بأمجاد “إيكيدي” العتيقة، لم يكن المهرجان مجرد احتفالية عابرة، بل كان بعثاً حضارياً وتجلّياً لهوية تأبى الأفول. هناك، حيث تذوب المسافات بين الماضي والحاضر، أدرك الجميع أن الحقيقة أزهى من كل وصف، فحقاً: “ليسَ مَن رَأى كَمَن سَمِع”.
طوفانٌ من الرقي.. ونبضٌ شبابي متجدد
لم تكن الساحات مجرد فضاءات جغرافية، بل كانت محاريبَ للجمال غصت بآلاف الزوار الذين جاءوا يحملون شغف الأجداد. تجلى الرقي في أبهى صوره عبر جمهورٍ استثنائي، كان الانضباط ديدنه، والتذوق الرفيع بوصلته.
و من العلامات الفارقة التي تثلج الصدور هو ذلك الحضور الشبابي الذي شكّل نسبة كبيرة من حضور المهرجان؛ شبابٌ آمنوا بأن الحداثة لا تكتمل إلا بوشاح الأصالة، فكانوا هم الحراس الأمناء لذاكرة “لفن الأصيل والحديث ” وقيم “الفتوة” الموريتانية الأصيلة.
سحر البيان وعنفوان التراث
على منصات المذرذرة، انسابت الكلمات كأنها شلالاتٌ من تبر. امتزج فيها فخر “الفصيح” بعذوبة “لغن”، فتعانقت القوافي في فضاءات السمو الفكري. ولم يكن الإبداع حبيس الكلمة فحسب، بل انطلق ليعانق عنان الصحراء من خلال:
مسابقات الرماية: حيث استيقظت شجاعة الفرسان، وكان وقع “المرمى” صدىً لبطولاتٍ لا تموت.
سباق الإبل: مشهدٌ مهيب تسابقت فيه “سفن الصحراء” مع الريح، وكأنها ترسم على أديم الرمل خطوط العودة إلى الجذور.
مخيم المهرجان : عبقرية الأرض وإنسانها
وفي زاوية تفوح منها رائحة الأرض، انتصب مخيم الصناعة التقليدية كشاهدٍ حي على أنامل الإبداع الموريتاني.
كان الفضاء لوحةً فنية ضمت كنوز المخطوطات والكتب العريقة و أنواع ا الصناعة التقليدية والمواد الغذائية الأصيلة؛ هنا تجلت “بركة الأرض” وعطاء الإنسان الذي طوّع الطبيعة لتكون زاداً وفناً، وعلما ، فكان المهرجان بذلك جامعة متنقلة و وليمةً للروح والجسد.
كان المهرجان منارات فكرية.. في قلعة العلم
ولأن المذرذرة هي موطن “البيان” وقلعة “العلم”، لم تغب الندوات الفكرية التي هطلت كالمطر الهتان. استعرض المحاضرون قضايا التاريخ والفكر بعمقٍ معرفي أضاء العقول، وحول نهار المهرجان إلى صالونات فكرية كبرى تُعيد للأذهان مجالس السلف الصالح من فقهاء و أدباء وفناني هذه الربوع الطيبة.
لقد كان مهرجان المذرذرة الدولي رحلةً في أعماق الذات، وعرساً وطنياً أثبت أن الأصالة هي الجسر الوحيد نحو مستقبل مشرق.
خرجت منه والقلب يردد صدى القوافي، والعين ترقبُ بلهفةٍ عودة اللقاء.
أحمد ولد محمد عمر

اترارزة مباشر موقع إخباري ومنصة يهتم بأخبار اترارزة
